بقلم: انسام عبد فاضل
في شوارع الموصل القديمة، كانت جُمان تسير بخطوات مليئة بالحلم، تحمل حقيبتها المدرسية وتتمتم بين شفتيها مرافعة وكأنها أمام قاضٍ حقيقي. كان حلمها بالمحاماة يتسع كل يوم، عيونها تتأمل المستقبل، وفي قلبها كانت تنمو رغبة قوية في أن تكون صوتًا للعدالة. لكنها لم تكن تعلم أن القدر يخبئ لها امتحانًا قاسيًا، سيأخذ منها كل شيء.
في عام 2014، اجتاح داعش مدينة الموصل، وحوّل الحياة إلى جحيم لا يطاق، أُغلقت المدارس، دُمرت الكتب، وتُركت المدينة في الظلام، حلم جُمان بالمحاماة بدأ يختفي تدريجيًا مع تصاعد الخوف، لم يكن الخوف وحده ما يطاردها، بل الشائعات التي تنتشر كالنار في الهشيم: "داعش سيأخذ الفتيات للزواج من مقاتليهم." أصبح الخوف على المستقبل أكبر من أي شيء آخر.
دون سابق إنذار، وجدت جُمان نفسها تُزف إلى رجل يكبرها بعشرين عامًا، رجل لا تحبه ولا ترغب به، لم يكن لديها خيار آخر، فوالداها فضلا تزويجها. في سن الخامسة عشرة، ودّعت جُمان طفولتها وأحلامها، وبدأت رحلة جديدة في الحياة مع رجل لم تختاره، لكنه كان ملاذًا من جحيم الحرب.
في عام 2015، أنجبت جُمان طفلها الأول وسط حصار داعش للمدينة، كانت الحياة في الموصل على انهيار تام، والخوف يسيطر على الجميع، لم يكن بإمكان أحد الخروج من المدينة، ومن يفعل ذلك يُعرض نفسه للموت بتهمة مخالفة قوانين التنظيم، اشتدت الأزمة الاقتصادية بشكل مروع، أصبح الحصول على الطعام أمرًا نادرًا، والأسعار ارتفعت بشكل لا يطاق، جُمان فقدت حليبها بسبب الجوع الشديد، ولم تكن قادرة على إرضاع طفلها، علب الحليب أصبحت تُباع بثلاثة أضعاف سعرها المعتاد، مما جعل طفلها يعاني من الجفاف، اضطروا لنقله إلى مستشفى المدينة، الذي كان يعاني بدوره من نقص حاد في الأدوية والموارد.
مرت السنوات، وأنجبت جُمان طفلها الثاني، لكن حياتها ظلت مليئة بالمعاناة، زوجها كان مريضًا، ومع مرور الوقت، اشتد عليه المرض حتى فارق الحياة بعد أربع سنوات، لم يكن هذا آخر فقدان في حياتها، فوالداها توفيا في قصف أثناء عملية تحرير المدينة، وجدت جُمان نفسها وحيدة، لا أحد يقف إلى جانبها إلا طفلين يحملان أحلامًا ضائعة وأملًا ضعيفًا وسط هذا الخراب.
عند تحرير الموصل وعودت المدينة إلى الحياة وسط الرماد المروع ومخلفات الحرب، أمام واقع مرير، لم يكن أمام جُمان خيار سوى النهوض، بدأت بصنع الحلويات والأكلات المنزلية، مستعينة بوصفة والدتها التي كانت تحبها وتعلّمها في أوقات الطفولة البسيطة، رغم التحديات الاقتصادية والاجتماعية، بدأت مشروعها الصغير الذي لم يكن يلبّي احتياجاتها المادية فقط، بل كان مخرجًا لها من ضيق الحياة، ومع مرور الوقت، استطاعت بناء سمعة جيدة، وأصبح لديها زبائن دائمون، وفي تلك اللحظات التي كانت تشعر فيها بالوحدة، اكتشفت أن الأمل يمكن أن يولد من تحت الركام.
رغم أنها لم تحقق حلم الطفولة وكبرت وتحملت مسؤولية كبيرة، لكهنا قررت أن تجري إمتحان السادس (خارجي)
أجرت الإمتحان، وتفوقت بمعدل يسمح لها بالدخول إلى كلية الحقوق
التحقت بكلية الحقوق واكملت مسيرتها العلمية إلى جانب تربية طفلين والعمل في الوقت ذاته.
جُمان أصبحت مدافعة عن نفسها وعن أطفالها، حاربت الظروف القاسية، مقاومةً اليأس الذي كان يحاصرها من كل جانب، الحياة لم تكن عادلة، ولكنها أدركت أن العدالة لا تكون دائمًا في قاعة المحكمة، بل في قدرة الإنسان على النهوض مجددًا، على مقاومة كل ما يمر به من صعوبات، وإعادة بناء حياته بأيدٍ قوية.
في ليلة باردة، جلست جُمان بجانب طفليها في الزاوية المظلمة من غرفتها البسيطة، كان ضوء القمر يتسلل عبر النافذة، يضيء وجهها الممتزج التعابير، تذكرت الطفولة وهي تلعب دور المحاماة أمام المرآة ، والأمل الذي كانت تحمله في قلبها في سنوات الطفولة ابتسمت رغم كل شيء، فهي قد حققت طموحها لطالما كانت مؤمنة بخالقها وايمانها في الآية التي تشير إلى "أجيب دعوة الداع" هي في القرآن الكريم في سورة البقرة، الآية 186:
"وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ"
كانت قد صنعت طريقها الخاص وسط عالم مملوء بالنور الذي انتصر على زوايا الظلام، وانتزعت اليأس من بين أنقاض الحرب، ربما لم تختار قدرها كما أرادت ، لكنها وجدت العدالة في قدرتها على البقاء، على الاستمرار، على بناء حياة جديدة، وتربية طفلين وسط هذا العالم القاسي.
جمان لم تترك الظلام يسيطر على حياتها، ذكرت" بأن الإنسان بيده يختار حياته، بيده يعيش عاجزًا أمام القدر، لمن يقرأ قصتي، "خلي إيمانك بالله كبير، وعن تجربة ما راح يخيبك رب العالمين، أحلم وعيش واسعى ولا تهتم الكلام أحد، لا تفقد الأمل بمجرد إمتحان صعب او عثرة، كون بساحة المبارزة مع الحياة وانتصر عليها وحقق طموحك واشتغل وانجح وخلي اولادك يفتخرون بيك، كل العالم تفتخر بيك من تنجح وتصل، كل العالم الي كانت تحجي عليك وتذمك راح تحتاجك من تصير، واكو جملة قريتها بأحد الكتب تكَول "كلما زادت مهاراتك زادت حاجة الناس لك، وكلما قلت استغنى عنك الجميع، الحياة مبنية على مصلحة، والحياة تبقى تحجي، بس من يكون الك منصب بالمجتمع هم نفسهم راح يحترموك، الي يوم من الأيام ح حچو وقللو منك، اتخيل لو ما حققت شي، كيف كان حالي اني وجهالي" ؟
واخيرًا رسالة جمان الاخيرة
ما دمتَ تتنفس... عِشْ.
=========
مشروع (النساء والسلام)
مشروع نفذتها منظمة السلام والحرية بالشراكة مع منظمة النساء من أجل نساء العالم في محافظتي كركوك ونينوى، 2024-2025، وبدعم من الوكالة البريطانية للتنمية.

